فشل الواقعية- غزة كنموذج لتجاوز ميزان القوى

المؤلف: طلال صالح بنان09.22.2025
فشل الواقعية- غزة كنموذج لتجاوز ميزان القوى

أي نظام عالمي يهدف إلى صون استقراره، لا يتحقق ذلك إلا من خلال الحفاظ على توازنه الدقيق، وهو ما يستلزم تقييماً دقيقاً لمصادر القوة لدى جميع الأطراف المعنية. من بين أبرز الانتقادات الموجهة إلى المدرسة الواقعية، في مختلف مراحل تطورها، هو اعتمادها المفرط على تقديرات متغيرة للقوة المادية التي تمتلكها الأطراف المتنازعة أو الأقطاب الرئيسية في النظام الدولي.

وحتى في سياق ما يُعرف بـ "توازن الرعب النووي"، تصر المدرسة الواقعية على التحقق من الدقة المادية في حساب توازن القوى بين الأطراف الكبرى في النظام العالمي، وذلك بهدف الحفاظ على استقرار منظومة الأمم المتحدة. إلا أن ما يغيب عن بال أنصار المدرسة الواقعية هو إغفالهم وعدم اهتمامهم الكافي باحتمالية اندلاع الحرب بشكل مفاجئ وغير متعمد، حتى في ظل وجود وسائل اتصال وإنذار مبكر متطورة بين هذه الأطراف. فمنطق وعقلانية توازن القوى المادية بين القوى العظمى غالباً ما يتحكم في سلوك هذه الأطراف، مما يزيد من احتمالية وقوع الأخطاء.

بالإضافة إلى ذلك، لا توجد ضمانة حقيقية لتوفير مظلة أمنية فعالة لأي قوة دولية أو إقليمية، مهما بلغت ثقتها في قدراتها وإمكاناتها في مجال الردع الاستراتيجي. فالحرب قد تندلع بشكل غير متوقع وتطيح بأي قوة دولية أو إقليمية بالغت في تقدير إمكانات الردع التي تمتلكها، والتي تعتمد عليها في الحفاظ على بقائها ونفوذها الإقليمي والدولي.

لقد أثبتت الأحداث العديدة التي شهدها العالم في عهد الأمم المتحدة أن الاعتماد المفرط على إمكانات الردع الاستراتيجي لأي قوة إقليمية أو دولية، لا يكفي وحده للحفاظ على استقرار الترتيبات الأمنية التي تفرضها علاقات القوى المادية وحدها. فعلى الرغم من التفوق الاستراتيجي الذي تمتلكه الولايات المتحدة في ميزان القوى التقليدي والاستراتيجي، إلا أنها لم تتمكن من حسم الحرب الكورية (1950- 1953) لصالحها. وكان الوضع أسوأ في حرب فيتنام (1961- 1975). وبالمثل، فشل الاتحاد السوفيتي فشلاً ذريعاً في إخضاع أفغانستان، الدولة الفقيرة في مواردها المادية والقتالية (1979- 1989)، وهو الفشل الذي تكرر لاحقاً مع الولايات المتحدة على الساحة الأفغانية نفسها (2001- 2021).

إسرائيل، وهذا مثال نشاهده يومياً، فشلت إمكاناتها للردع التقليدية والاستراتيجية في تحقيق نصر حاسم في حربها على غزة.

كما أن روسيا الاتحادية، على الرغم من قدراتها الكبيرة في مجال الردع التقليدي والاستراتيجي، لم تتمكن من تحقيق نصر سريع في حربها ضد أوكرانيا، والتي دخلت عامها الرابع.

إن حرب إسرائيل على غزة تمثل دليلاً قاطعاً على عجز المدرسة الواقعية، بكل أشكالها وتطوراتها، عن تقديم تفسير مقنع لما يحدث في غزة من صراع عنيف، لا يعتمد على أي تصور لمنطق أو عقلانية ما يسمى بآلية توازن القوى. بل لا يوجد ما يشير، بين طرفي الصراع، إلى وجود توازن قوى حقيقي يفسر سلوكهما القتالي، أو على الأقل سلوك الطرف الأضعف في هذا الصراع. هناك إصرار عنيد من كلا الطرفين على الاستمرار في دوامة العنف، ولا يبدو في الأفق ما يشير إلى أن أيّاً منهما قادر على حسم الحرب، مهما بلغ الاختلال في ميزان القوى بينهما.

وبغض النظر عن الجدل الدائر حول عقلانية اللجوء إلى الحرب، سواء لحسم الصراع على الأرض أو لتهيئة الأوضاع لتسوية سلمية، فإن تقدير الطرف الأقوى (إسرائيل) لقدراته المتفوقة في مجال الردع، والذي وصل إلى حد الغرور، جعله يتجاوز القضية الفلسطينية، ويقترب من الوهم بدلاً من العقلانية. فالقوة الهائلة لإسرائيل لم تمنع المقاومة الفلسطينية في غزة من خوض الصراع العنيف، مهما كانت التضحيات. كما لم تتمكن إسرائيل من تحقيق أي من أهدافها المعلنة من الحرب، على الرغم من تفوقها الساحق في ميزان القوى، سواء على المستوى الاستراتيجي أو السياسي أو الإعلامي، وحتى بعد تدمير 80% من غزة، فإن أكثر من مليوني غزاوي لم يستسلموا بعد!

في المقابل، نجد أن إسرائيل، على مستوى نظامها السياسي الداخلي وتجربتها الديمقراطية "الفريدة" في المنطقة، تواجه تحديات حقيقية، داخلياً وخارجياً، تصل إلى مستوى المخاطرة باحتمالات اندلاع حرب أهلية، وتكشف عن زيف خطابها السياسي والأخلاقي في تبرير وجودها. هناك انقسامات عميقة على المستوى السياسي الرسمي وفي الشارع، تطال كل ما كانت إسرائيل تدعيه من تفرد في نظامها السياسي "الديمقراطي"، وأن جيشها هو الأكثر أخلاقية بين جيوش المنطقة والعالم، وأنها تدافع عن نفسها وكيانها في خط المواجهة المتقدم لقوى "الحرية والتقدم" وأمن ومصالح الغرب، وأن كل ما ترتكبه من جرائم ضد الفلسطينيين في هذه الحرب، تبرره مقتضيات الحفاظ على أمنها. كل هذه المزاعم لا تخفي حقيقة أن قادتها السياسيين والعسكريين أصبحوا مطاردين من العدالة على مستوى العالم، ويفقدون يوماً بعد يوم مواقع قدم كانت راسخة في نظامهم السياسي.

الخلاصة النهائية هي أن المتغيرات المادية التي يمكن قياسها كمياً، لا يمكن وحدها أن تفسر لنا الخيط الرفيع بين الحرب وتجنب اتخاذ قرار بشنها، ولا حتى التحكم في مسارها عندما تندلع، ولا التمكن من إيقافها متى أرادوا ذلك. فاستقرار النظام الدولي، وعلى مستوى الأقاليم المختلفة، لا يمكن أن يعتمد على متغير القوة المادي وحده للحفاظ على التوازن بين أطراف أي صراع، لتحقيق الاستقرار، مهما بلغت دقة حساب موازين القوى بين القوى الدولية.

هناك دائماً متغيرات خفية، يصعب قياسها كمياً، تتحكم في قرار الحرب والإقدام عليها، وليس بالضرورة أن تكون عقلانية أو يمكن الدفاع عنها أمنياً وسياسياً وأخلاقياً، لكنها موجودة وأحياناً تفرض نفسها بقوة على أي متغيرات مادية يمكن قياسها كمياً، لتفسير الخيط الرفيع الذي يحكم حركة الصراع بين أطرافه.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة